قصة ولادة النبي عيسى
لمّا حملت مريم بالنبي عيسى -عليهما السلام- بأمر من الله -تعالى-؛ اختارت مكاناً بعيداً تخلو فيه عن الناس وتخفي فيه حملها، فلمّا جاءها المخاض وما يصاحبه من الآلام والمشقة لجأت إلى جذع النخلة، وقيل إنّ شدة ألمها هي التي ألجأتها إلى النخلة؛ لتستند عليها وتتشبث بجذعها، وتخفّف من آلام الوضع الشديدة، ولمّا اشتدت عليها الأوجاع تمنت لو أنّها ماتت قبل هذا الأمر؛ فقد جاء في القرآن الكريم على لسانها -عليها السلام-: (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)،[١] فكان ذلك ردّة فعل منها على هذا الأمر الجلل، كما كان من شدّة حزنها لانقطاعها عن الناس، وبُعدها عمن يؤنسها في حال كهذه.[٢]
ولكنّ الله -تعالى- تعهدها برعايته وخفف عنها ما بها بانطاق عيسى -عليه السلام- من تحتها؛ حيث نادها وأخبرها أنّ الله -تعالى- جعل لها نهر ماء جاري، وأمدّها بالطعام والرُّطب، وجعل لها بذلك -سبحانه- عدّة آيات جليلة؛ بأنّ كلمها مولودها، وأن أجرى لها الماء من تحتها، ثم أسقط عليها الرطب بهزاتها الضعيفة لجذع النخلة؛ فكان ذلك لتتقوى على أمرها وتقرّ نفسها وتسكن.[٢]
وبعد انتهائها أوحى الله لها أن تلتزم الصمت، ولا تكلّم أحداً من البشر في شأن ولادتها؛ حيث تولّى الله -سبحانه- الدفاع عنها وتبرير موقفها؛ فلمّا جاءت قومها وهي تحمل عيسى أنكروا عليها هذا الفعل، وجعلوا يُذكرونها بطيب أصلها ويلمزون في حسن خلقها، فأشارت إلى ابنها عيسى الذي تصدّر للموقف؛ إذ أنطق المولى لسانه فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)؛[٣] فأقام عليهم الحجة الدامغة، وأغلق عليهم أبواب الظنون والشكوك.[٤]
حمل مريم عليها السلام
بيّن القرآن الكريم في سورة مريم قصة حمل أمّ عيسى مريم -عليهما السلام- به، فقد كانت مريم ابنة عمران تتعبد وتتنسك في المسجد؛ فإذا جاءها الحيض تحوّلت من المسجد إلى بيت النبي زكريا -عليه السلام-، وفي المرة التي كانت تريد الاغتسال من الحيض اتخذت مكاناً بعيداً عن البيت؛ فأرسل الله -تعالى- جبريل -عليه السلام- إلى مريم متمثلاً بصورة بشر، فاستعاذت منه وخافت على نفسها؛ فأخبرها جبريل -عليه السلام- بأنّه وحيّ من الله -تعالى-، جاء ليهب لها ابناً طيباً.[٥]
وقد تعجّبت مريم -عليها السلام- أن يكون لها ولد من غير أن تتزوج، أو أن يكون لها رجل تُنجب منه؛ فطمأنها جبريل -عليه السلام- أنّ هذا من أمر الله -تعالى- وعظمة قدرته، ثم نفخ فيها من روح الله -تعالى-، لتحمل بعيسى -عليه السلام-، وقيل إنّها حملت به مدة سبعة أشهر، وقيل تسعة، وقيل ساعة، كما رُوي أنّها كانت تبلغ من العمر ثلاث عشرة سنة أو عشر سنوات؛ ولا يوجد دليل صحيح يُثبت ذلك أو ينفيه؛ فتبقى هذه الأمور في علم الله وحده.[٥]
وقد ورد ذلك في قوله -تعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا* قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا* قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا* قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا).[٦]
الأحوال التي سبقت حمل مريم
مهّد الله -سبحانه- لحمل مريم -عليه السلام- بحسن إنباتها، واصطفائها بالركوع والسجود والخشوع، وملازمتها للمسجد والمحراب، واتصافها بالعفة والطهارة والتقوى على نسائ العالمين؛ وقد ظهر ذلك جليّاً لكل من عرفها؛ وبهذا كانت التهيئة لمريم -عليه السلام- بأحسن الأحوال والأخلاق؛ حتى تكون على قدر حمل الوديعة التي وهبها الله -تعالى- لها؛ بأن تحمل في رحمها نبي الله عيسى -عليه السلام-؛ وبهذا تتبدد كل المزاعم التي تتهم مريم -عليها السلام- بالفواحش، والإقدام على الزواج سراً من رجل غريب.[٧]
ردّ ما يقال في ولادة النبي عيسى
إنّ مسألة ولادة عيسى من غير أب -عليه السلام- أثارت الشكوك عند بعض الناس، حتى زعموا أنّ عيسى -عليه السلام- صار جزءاً من ذات الله -سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً-؛ وأنّ اتحادهما صار بطبيعة واحدة، وفي هذا وهم كبير يمكن الردّ عليه بما يأتي:[٨]
- إنّ ولادة عيسى -عليه السلام- من غير أب معجزة إلهيّة داخلة في عظمة قدرته -سبحانه-، فالله -تعالى- خلق آدم وحواء من غير أب أو أم؛ ولم يثبت أحد لهما البنوة لله -تعالى عن ذلك-، وكذلك الأمر بالنسبة لعيسى -عليه السلام-.
- أنّ الله -تعالى- ردّ على هذه المزاعم بالإنكار في كتابه العزيز؛ حيث قال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)،[٩] وقال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).[١٠]
- إنّ وصف الله -تعالى- لعيسى -عليه السلام- بأنّه كلمة منه -سبحانه-، لا تعني اتحاد الذات أو القوة؛ فالله -سبحانه- قديم منذ الأزل، ولا يليق به -جلّ في علاه- التقسيم والتجزيء، كما إنّ الكلمة يُقصد بها ما أوُحي لجبريل -عليه السلام- بها؛ وهي كلمة "كن" ليكون عيسى -عليه السلام-.
- إنّ وصف الله -تعالى- لعيسى -عليه السلام- بأنّه روح منه -سبحانه-، لا تعني أنّه روح الله -تعالى-، بل تعني أنّ الله -تعالى- أمر جبريل -عليه السلام- بنفخ الروح بعيسى -عليه السلام- لتكون له الحياة، ونُسبت الروح إلى الله -تعالى- تشريفاً وتكريماً.
- أثبت الله -سبحانه- البشريّة لعيسى وأمه مريم -عليهما السلام- حين قال: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ).[١١]
المراجع
- ↑ سورة مريم، آية:23
- ^ أ ب الشعراوي، تفسير الشعراوي، صفحة 9062-9069، جزء 15. بتصرّف.
- ↑ سورة مريم، آية:30-33
- ↑ أبو جعفر ابن جرير الطبري، تفسير الطبري جامع البيان، صفحة 527-529، جزء 15. بتصرّف.
- ^ أ ب وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 67، جزء 16. بتصرّف.
- ↑ سورة مريم، آية:16-21
- ↑ محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، صفحة 1212، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ أحمد أحمد غلوش، دعوة الرسل عليهم السلام، صفحة 475-477. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:59
- ↑ سورة النساء، آية:171
- ↑ سورة المائدة، آية:75