قصة سيدنا إبراهيم والنار

دعوته لأبيه وقومه

لقد قصّت علينا آيات القرآن الكريم قصّة إبراهيم -عليه السلام- في مواضع مختلفة، ابتداءً من تفكّره في خالق الكون وموجده، ومن ثمّ اهتدائه إلى الحق، وانتهاءً بنبوته ودعوته، فقد كان -عليه السلام- يدعو قومه لترك عبادة الأصنام والتماثيل، منكراً عليهم الاعتكاف والعبادة لحجارة لا تضرّ ولا تنفع، لكنّهم أصروا على كفرهم وجادلوا النبي إبراهيم -عليه السلام- في ذلك أشدّ الجدال؛ قال -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ).[١][٢]


وعلى الرغم من ذلك فإنّ إبراهيم -عليه السلام- لم يترك ما يدعو إليه، واجتهد بدعوة القريب والبعيد؛ فقد خلّد حواره مع أبيه آزر الذي أغلظ عليه القول، وهدّده بالرجم طالباً منه الهجر والبُعد؛ فما كان منه إلا أن عمد إلى بعض الأساليب التي ستحثّ فيهم التفكير والتدبر، وتالياً بيان ما قام به النبي إبراهيم -عليه السلام- مع قومه.[٢]


تحطيم أصنامهم

بعد إصرار قوم إبراهيم على إشراكهم وضلالهم، جلس يُفكر مليّاً فيما يفعله تجاههم حرصاً وغيرة على دين الله -عز وجل-، فلمّا كان يوم عيد لهم تعذّر عن الخروج معهم بالمرض مبيتاً نيّة تحطيم أصنامهم، وقد استخدم أسلوب التورية بأنّه سقيم القلب لكفر قومه وضلالهم لا سقيم الجسد؛ قال -تعالى-: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)،[٣] فلمّا تولى القوم إلى عيدهم بدأ بتكسير الأوثان والتماثيل، وترك لهم كبيرهم حتى يُقيم عليهم الحجة في ذلك.[٤]


ولمّا عادوا ووجدوا أصنامهم قد تحطمت وتضررت، غضبوا وتباحثوا؛ فتوصلّوا إلى أنّ إبراهيم -عليه السلام- هو من كان يذكرها ويُحذّر منها، فأتوا به، ودار بينهم الجدال؛ قال -تعالى-: (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ)،[٥] وقال -تعالى- في موضع آخر: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)،[٦] فقرر القوم حينها معاقبته -عليه السلام- بالإلقاء في النار المستعرة.[٤]


إحراقه بالنار

جهّز القوم ناراً عظيمة لحرق إبراهيم -عليه السلام- الذي سفّه معتقداتهم، وحطّم أصنامهم وأوهامهم معها، فكان العذاب الأشدّ من وجهة نظرهم إحراقه بالنار؛ قال -تعالى-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)،[٧] فكانت إرادة المولى وقدرته فوق إرادتهم؛ إذ جعل النار متقدة مستعرة، وقد أُلقي فيها إبراهيم -عليه السلام- عياناً على مرأى الناس، ولكنّه -سبحانه- جعلها برداً وسلاماً عليه؛ فلم تؤذه ولم تحرقه؛ قال -تعالى-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ).[٨][٩]


وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المفسرين ذكروا في كتبهم أنّ القوم أعدّوا لهذا الحدث العظيم شهراً كاملاً، إذ قاموا بحفر بيتٍ عالٍ، وجمعوا فيه الأخشاب الصلبة التي تتحمل طول مدة الإحراق، وقد أشعلوا النار فيها حتى إن الطيور إذا مرّت بها أُحرقت من شدّدتها، ثم جاؤوا بإبراهيم -عليه السلام-، وصبّوا عليه الزيت، ثم قذفوا مغلولاً بالحبال بواسطة المنجنيق، لكنّ الله -سبحانه- ردّ كيدهم، وكشف عن نبيّه هذه المحنة العظيمة، فأنجاه منهم ومن حقدهم.[١٠]


خروجه من أرض قومه

ولمّا نجى إبراهيم -عليه السلام- من النار أراد القوم به مكراً، فقرر بعدها الهجرة من بلدهم وكفرهم؛ فأنعم الله -سبحانه- بالعديد من النعم التي هوّنت عليه أمره؛ حيث خرج مع نبي الله لوط -عليه السلام-، ونجى من أرض الكفر هو ومن معه من المؤمنين، ثم وهب الله -سبحانه- الذريّة الطيّبة الصالحة، ورزقه بإسماعيل وإسحاق، كما بشّره المولى بيعقوب من بعدهم -عليهم السلام جميعاً-، قال -تعالى-: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ).[١١][١٢]


الدروس والعبر المستفادة من قصة النار

تتجلى الدروس في مثل هذه القصة القرآنية الجليلة؛ وفيما يأتي ذكر بعضها:

  • الغضب لشريعة الله -تعالى- وانتهاك محارمه.
  • التوكل التامّ على الله -سبحانه-، وحسن الظنّ به.
  • إقامة الحجة على أهل الباطل.
  • التضحية بالنفس والمال، والوطن والأهل في سبيل إعلاء كلمة الحقّ.
  • نصرة الله -سبحانه- للمؤمنين، وكسر شوكة الكافرين.

المراجع

  1. سورة الأنعام، آية:80
  2. ^ أ ب ياسر برهامي، دروس للشيخ ياسر برهامي، صفحة 5، جزء 69. بتصرّف.
  3. سورة الصافات، آية:88-90
  4. ^ أ ب وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 108-112، جزء 23. بتصرّف.
  5. سورة الأنبياء، آية:62-63
  6. سورة الصافات، آية:95-96
  7. سورة الأنبياء، آية:68
  8. سورة الأنبياء، آية:69
  9. [الشعراوي]، معجزة القرآن، صفحة 7. بتصرّف.
  10. [أحمد أحمد غلوش]، دعوة الرسل عليهم السلام، صفحة 132. بتصرّف.
  11. سورة الأنبياء، آية:73
  12. المراغي، أحمد بن مصطفى، تفسير المراغي، صفحة 52، جزء 17. بتصرّف.