لماذا دعا سيدنا زكريا في محراب مريم؟
جاء في القرآن الكريم ذكر قصّة كفالة سيدنا زكريا للسيدة مريم -عليهما السلام-، وأنّه لمّا كفلها جعل لها محراباً في بيت العبادة لتُوفي نذر أمّها بها؛ بأنّ تكون خادمة لبيت الله -تعالى-، ولمّا شبّت السيدة مريم -عليها السلام- أجرى الله -تعالى- لها من الكرامات وخوارق العادات ما تذهل له العقول؛ فكان يأتيها الرزق في محرابها، وكلّما دخل عليها سيدنا زكريا المحراب وجد عندها رزقاً وخيراً كثيراً.[١]
وهذا ما ذكره المولى -سبحانه- حيث قال: (... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ* هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)،[٢]
وكما ذكرت الآيات لمّا سمع زكريا -عليه السلام- جواب السيدة مريم عند سؤاله عن هذا الرزق؛ وقد ملأَ قلبه حسن الظنّ بالله -تعالى-؛ فلمّا سمع ذلك دعا ربّه -سبحانه- في ذلك الزمان والمكان؛ بدليل لفظ "هنالك"؛ فهي إنْ أُطلقت على الزمان صحّ المعنى، وإن أُطلقت على المكان صحّ المعنى كذلك.[٣]
وهذا يعني أنَّ دعاء سيدنا زكريا قد وافق الوقت الذي كانت تُرزق فيه السيدة مريم بالخير، كما كان في محرابها الذي أتاها رزقها فيه؛ وقد تكلّم أهل العلم في سبب دعاء سيدنا زكريا -عليه السلام- في هذا الموضع -وهو المحراب-، وفي هذا الزمان؛ فقالوا:[٣]
- إنّ زكريا -عليه السلام- لمّا رأى عند مريم -عليها السلام- الرزق والخير، وفي غير وقته؛ فقد قيل إنّ فاكهة الصيف كانت تأتيها في الشتاء، وفاكهة الشتاء تأتيها في الصيف كرامة لها من الله -تعالى- طمع في كرم المولى -سبحانه- بأنْ يكون له نصيبٌ من رحمات الله؛ فتُنجب المرأة العاقر والشيخ الكبير بعد سنوات الحرمان؛ وهو قول جمهور المفسرين والمحققين.
- إنّ زكريا -عليه السلام- لمّا رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعةً بالسيدة مريم -عليها السلام-؛ تمنى الولد والذريّة الصالحة؛ فدعا الله -سبحانه- في ذلك المكان والزمان.
استجابة دعاء سيدنا زكريا عليه السلام
استجاب الله -سبحانه وتعالى- دعاء نبيّه زكريا -عليه السلام-؛ بأنّ بشّرته الملائكة بولد صالح اسمه يحيى، سيداً في قومه، يحمل إرْثَ العلم والنبوة؛ وقد كان ذلك كرماً من المولى -سبحانه- بأنْ جبر قلب نبيّه، وقلب زوجته بعد هذا الانتظار، كما كان لدعاء زكريا -عليه السلام- ومناجاته، وإلحاحه، وحسن ظنّه بالله -تعالى- كبير الأثر في تحقق هذا الأمر الخارق لكل توقعات البشر.
قال -تعالى- في بشارة سيدنا زكريا -عليه السلام-: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)؛[٤] إذ إنّ التعبير بالفاء في "فنادته" دلالة على أنّ استجابة الدعاء كانت بعد فترة قليلة من دعائه الخاشع، ومناجاته الصادقة؛ وهذا كلّه من كرم المولى -سبحانه-.[٥]
لطائف من دعاء زكريا عليه السلام
إنّ الناظر في الآيات الكريمة التي ذكرت قصّة دعاء زكريا -عليه السلام-، واستجابة الله -تعالى- لدعائه؛ يجد الكثير من اللطائف والإشارات التي تُسرّ بها النفس، ويطمئن لها الوجدان، ويتفاءل بها المسلم لمزيدٍ من كرم ووسع عطاء الله المنان، ونذكر من هذه اللطائف:
- إنّ مشاهدة عظيم قدرة الله -تعالى- له أثر كبير في زيادة اليقين بالله -تعالى-، وإحسان الظنّ به.
- الدعاء الخاشع، والتضرّع الخالص من أسباب التوفيق ونيل الرغائب.
- إنّ الله -تعالى- إذا أراد شيئاً لم يتأخر عن التحقق؛ وإن كان خلافاً للمعتاد، أو كان بنظر صاحبه بعيد المراد.
- إنّ عطاء الله -تعالى- هبة وتفضّل منه -سبحانه-، فلا يغترّ إنسانٌ بأنّ اكتمال الأسباب وحسن الأخذ بها موجب لحصول الأمر وتحققه؛ إنّما هي من باب حسن التوكل عليه، ومردّ الأمر لا يكون إلا إليه -سبحانه-.
المراجع
- ↑ الواحدي، التفسير البسيط، صفحة 206-209، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:37-38
- ^ أ ب الفخر الرازي، تفسير الرازي مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، صفحة 209، جزء 8. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:39
- ↑ محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط لطنطاوي، صفحة 94، جزء 2. بتصرّف.