صبرٌ ما بعده صبرٌ، وإيمانٌ ودعاءٌ وتضرّعٌ ويقينٌ بالاستجابة، تلك هي قصة نبي الله أيوب -عليه السلام-، النبي الذي يُضرب به المثل في الصبر على الشدائد والمصائب، وخاصةً الصبر على المرض وسؤال الشفاء من الله بالدعاء: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)،[١] الدعاء الذي يكثر ذكره عند الابتلاء الوارد على لسان أيوب -عليه السلام- الذي وصفه الله -تعالى- بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)،[٢] حيث أثنى الله -تعالى- عليه ومدحه بأنّه أوابٌ؛ أي كثير الرجوع للحقّ.[٣]


نسب النبي أيوب

يرجع نسب نبيّ الله أيوب -عليه السلام- إلى إسحاق بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، قال الله -تعالى-: (وَوَهَبنا لَهُ إِسحاقَ وَيَعقوبَ كُلًّا هَدَينا وَنوحًا هَدَينا مِن قَبلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داوودَ وَسُلَيمانَ وَأَيّوبَ وَيوسُفَ وَموسى وَهارونَ وَكَذلِكَ نَجزِي المُحسِنينَ).[٤][٥]


بعثة النبي أيوب

بعث الله -تعالى- نبيّه أيوب -عليه السلام- بين موسى ويوسف -عليهما السلام- بناءً على الأقوال الراجحة لأهل العلم.[٦]


ابتلاء النبي أيوب

ابتُلي النبي أيوب -عليه السلام - بلاءً عظيماً، وامتُحن في صبره وثباته، وتفصيل ذلك آتياً:


حياة النبي أيوب قبل البلاء وبعده

كان أيوب -عليه السلام- كثير المال والأولاد، صاحب جاهٍ وعزٍّ، غارقاً في النعيم، فابتلاه الله -تعالى- بأن سلب منه كلّ ذلك، بل وأصابه البلاء في جسده أيضاً؛ فلم يبقَ في جسده عضو سليمٌ إلّا قلبه ولسانه الذي استمرّ يذكر الله -عزّ وجلّ- بهما، وكان صابراً محتسباً، لا يشكو ولا يعترض على ما حلّ به، مُسلّماً أمره لله، وقد طال مرضه حتى انقطع الناس عنه وهجروه، وبقيت زوجته تخدمه وترعاه وتعطف عليه وتقوم على أموره، حتى أنّها خدمت الناس بالأجر لتحقّق حاجات زوجها، بعدما كانت في عزٍّ وجاهٍ، وغنى وترفٍ، لا تتأوه ولا تشكو، صابرةً محتسبةً على ما أصابها من فراق الولد والمال والنعيم، وقد ثبت أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- سُئل عن أشدّ الناس بلاءً، فأجاب: (الأنبياءُ ثمَّ الصَّالحونَ ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ منَ النَّاسِ يُبتَلى الرَّجلُ على حَسبِ دينِهِ فإن كانَ في دينِهِ صلابةٌ زيدَ في بلائِهِ وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ خُفِّفَ عنهُ وما يزالُ البلاءُ بالعَبدِ حتَّى يمشيَ على ظَهْرِ الأرضِ ليسَ عليهِ خطيئةٌ)،[٧] فالبلاء لم يزد أيوب -عليه السلام- إلّا صبراً واحتساباً، وحمداً وشكراً، وقد أعطى في ذلك أروع الأمثلة في قمة الصبر والرضا.[٨][٩]


اشتداد البلاء على النبي أيوب وشفاؤه من مرضه

طالت مدّة مرض نبيّ الله أيوب -عليه السلام- وبقيَ صابراً محتسباً سنواتٍ طويلة، إلى أن شُفي بإذن الله -تعالى- بعد دعائه واستجابة الله له، قال -عزّ وجلّ-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ*ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ*وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).[١٠] حيث أنبع الله -سبحانه- عيناً من الماء ليغتسل منها -عليه السلام-، فاغتسل، وأنبع له عيناً أخرى ليشرب منها، فشرب، فكان شفاؤه.[١١][١٢]


حياة النبي أيوب بعد الشفاء ورفع البلاء

أبدل الله -تعالى- نبيّه أيوب -عليه الصلاة والسلام- بعد مرضه صحةً ظاهرةً وباطنةً، وجمالاً تاماً، ومالاً كثيراً، وذريةً كثيرةً أيضاً، قال -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).[١٣][١٤] وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال عن أيوب -عليه السلام-: (بيْنَما أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا، خَرَّ عليه رِجْلُ جَرادٍ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي في ثَوْبِهِ، فَناداهُ رَبُّهُ يا أيُّوبُ ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قالَ بَلَى يا رَبِّ، ولَكِنْ لا غِنَى لي عن بَرَكَتِكَ)،[١٥] وهكذا عاش أيوب في النِّعم الوافرة والخيرات الكثيرة حتى لقي ربه.[١٦]


ركائز الدعوة في قصة النبي أيوب

دلّت قصة أيوب -عليه الصلاة والسلام على العديد من الدروس والعِبر والحِكم التي لا غِنى عنها لكلّ داعيةٍ لتعلّمه الصبر والتحمّل في دعوته وما سيواجهه من تكذيبٍ واستهزاءٍ، ومن أبرز الركائز التي لا بدّ للداعية من الالتفات إليها:[١٦]

  • الركيزة الأولى: تكامل شخصية مبلّغ الدعوة والقائم بشأنها، إذ إنّه لا يحقّق مراده في دعوته إلّا إن أخلص في سعيه، وكمل في ذاته، وأول ما يحتاجه الداعية أن تكون صِلته بالله قوية، وأن يرضى بقضائه وقدره في السرّاء والضرّاء، وحاجة الدعاة إلى الصبر ضرورةٌ لا بدّ منها؛ لأنّهم دائماً يجابهون أعداءهم، فيكون الصبر ملاذهم ومأواهم حينما يتمكّن الأعداء منهم، وهو الأسلوب الأمثل لإثبات قوة الحق، وإظهار صلابة الإيمان وعزّته، فالبلاء في الحقيقة اختبارٌ وامتحانٌ من الله -سبحانه- للعبد ليعلم حقيقة إيمانه وصبره، قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).[١٧]
  • الركيزة الثانية: الثقة المطلقة في الله وخاصةً حينما تشتد الخطوب ويكثر البلاء، فحينما يجد الداعية نفسه وحيداً فريداً، عليه أن يركن إلى الله -تعالى-، ويستجير بمعونته ونصره، فهو -سبحانه- القادر على كلّ شيءٍ، وبيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه يُرجع الأمر كلّه، وهو -سبحانه- مَن يقلّب الليل والنهار، بما يشاء وبما يريد، وكان أيوب -عليه السلام- مَثَلٌ أعلى في هذه الثقة، ولما أراد الله له النجاة والشفاء أخذه إليه، فناداه قائلاً: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)،[١] فيسّر له الله طريق الشفاء فأمره بالاغتسال في الماء الذي نبع له بعد أن ضرب الأرض بقدمه، وأعاد له ما أخذ منه من أهلٍ ومالٍ وولدٍ.
  • الركيزة الثالثة: ضرورة الأخذ بالأسباب إلى جانب التوكّل على الله -سبحانه-، فالله يُجري الأقدار على عباده على يصدر منهم من أسبابٍ، وبذلك يتعلّم العباد عدم التواكل، يؤيّد ذلك ما ورد: (قالت الأعرابُ يا رسولَ اللهِ ألا نتداوى قال نعم يا عبادِ اللهِ تداوُوا ، فإن اللهَ لم يضعْ داءً إلا وضعَ له شِفاء).[١٨]


العبر والدروس المستفادة من قصة النبي أيوب

دلّت قصة نبي الله أيوب -عليه الصلاة والسلام- على العديد من العِظات والدروس الآتي ذكر بعضٍ منها:[١٩]

  • الصبر يعود على صاحبه بالخير في الدنيا والآخرة.
  • ضرورة تعظيم الله -عزّ وجلّ-، فقد كان أيوب -عليه الصلاة والسلام- يعظّم ربّه كثيراً.
  • كشف المصائب والابتلاءات لحقيقة الناس وجوهرهم، فقد كشف بلاء أيوب -عليه الصلاة والسلام- حقيقة زوجته التي سانتده وبرّته وقامت على خدمته وصبرت معه على ما أصابه.

المراجع

  1. ^ أ ب سورة الأنبياء، آية:83
  2. سورة ص، آية:44
  3. إسلام ويب (10/08/2011)، "قصة أيوب عليه السلام "، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 9/5/2021. بتصرّف.
  4. سورة الأنعام، آية:84
  5. أبو جعفر الطبري، كتاب تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، صفحة 322. بتصرّف.
  6. اسلام ويب (10/8/2011)، "قصة أيوب عليه السلام"، إسلام ويب، اطّلع عليه بتاريخ 9/7/2021.
  7. رواه الإمام أحمد، في مسند أحمد، عن سعد بن أبي وقاص، الصفحة أو الرقم:3/45، إسناده صحيح.
  8. ابن كثير ، البداية والنهاية، صفحة 254-256. بتصرّف.
  9. أبو جعفر الطبري، كتاب تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري، صفحة 323. بتصرّف.
  10. سورة ص، آية:41-44
  11. ابن كثير، تفسير ابن كثير، صفحة 65. بتصرّف.
  12. أبو جعفر الطبري، تفسير الطبري، صفحة 210. بتصرّف.
  13. سورة الأنبياء، آية:84
  14. ابن كثير، البداية والنهاية، صفحة 258. بتصرّف.
  15. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:3391، صحيح.
  16. ^ أ ب أحمد أحمد غلوش، كتاب دعوة الرسل عليهم السلام، صفحة 250-245. بتصرّف.
  17. سورة الملك، آية:2
  18. رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن أسامة بن شريك، الصفحة أو الرقم:2038، صحيح.
  19. شحاتة صقر، كتاب دروس وعبر من صحيح القصص النبوي، صفحة 13. بتصرّف.