مهنة سيدنا موسى عليه السلام

كان أنبياء الله -سبحانه- يسعون لنيل أقواتهم، ويقومون بالكسب من عمل أيديهم؛ إذ إنّ الله -تعالى- جعلهم قدوة للناس في جميع أمورهم، قبل البعثة وبعدها؛ فلمّا أنعم الله -تعالى- عليهم وشرفهم بالنبوة والرسالة؛ كانوا أقرب إلى الناس، وأكثر تواضعاً لهم، إضافةً إلى قدرتهم على فهم النفوس والعقول؛ فيكون ذلك أدعى لاستخدام الأساليب المناسبة في الدعوة إلى الله -تعالى-.


ولقد أشار القرآن الكريم في عدد من المواضع إلى مهن العديد من الأنبياء -صلوات الله عليهم-؛ بالإضافة إلى النصوص الثابتة من السنّة النبويّة؛ ومن ذلك ما ذُكر في مهنة سيدنا موسى -عليه السلام-؛ فقد كان راعياً للأغنام، يقوم على أمرها ويرعاها، ويجعل ذلك مصدراً لنيل الرزق؛ ونستدل على هذا بالآتي:


قصته مع الفتاتين وصالح مدين

خرج النبي موسى -عليه السلام- من مصر بعد خوفه من بطش فرعون وملأه؛ حيث توجّه تلقاء مدين، فلمّا وصل إلى ماء مدين، وجد عنده جماعة من الناس يسقون أغنامهم، ووجد فتاتين من دون الرعاة ينتظران دورهما بالسقاية؛ فسألهما موسى عن أمرهما، فأخبرتاه أنّهما لا تقويان على مزاحمة الرعاة، وأنّ أباهما رجل كبير في السنّ، فسقى لهما موسى -عليه السلام- أغنامهما، ثم تولّى عنهما.[١]


ولمّا عادت الفتاتان إلى والدهما، وأخبرتاه بما كان من نبي الله موسى -عليه السلام-، بعث إليه إحدى بنتيه ليجزيه أجر ما قام به، ثم عرض عليه العمل عنده برعي الأغنام ثماني سنوات مقابل أن يزوجه إحدى ابنته؛ فإنّ أتمّ عشراً فهذا زيادة تفضل منه، فوافق موسى -عليه السلام- وعمل برعي الأغنام عند هذا الرجل الصالح.[١]


قال -تعالى-: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).[٢][١]


جوابه بشأن عصاه

كما يدلّ على رعي نبي الله موسى -عليه السلام- الأغنام؛ ما كان من جوابه -عليه السلام- في أمر عصاه، عندما أوحى إليه جلّ في علاه- ليكلّفه بالنبوة والرسالة، مع تأييده بالمعجزات العظيمة؛ حيث قال -سبحانه-: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى).[٣][٤]


وقد فسّر أهل العلم الهشّ بأنّه خبط الشجر، مما يؤدي إلى تساقط أوراقه لترعاه الأغنام، ومن القراء من قرأها بالسين "أهسّ"؛ وهي بمعنى زجر الأغنام؛ فكانت هذه العصا مما يعينه على أداء مهنته في رعي الأغنام وإطعامها، والدفاع عنها بقتل السباع والحيّات، والاستعانة بها للوصول إلى الماء من الآبار، وحمل الزاد والمتاع، مع الاستعانة بها في أثناء السير، والاتكاء عليها عند التعب، وبهذا قال أهل المعاني.[٤]


حديث النبي صلى الله عليه وسلم

أخبر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق الأمين بأنّ الأنبياء جميعهم رعوا الغنم من قبله -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك لمّا دلّ أصحابه -رضوان الله عليهم- على أحد أنواع الثمار لطيبها؛ فقالوا له: (... أَكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ؟...)، فأجابهم -صلى الله عليه وسلم-: (... وهلْ مِن نَبِيٍّ إلَّا وقدْ رَعَاهَا؟)؛[٥] فكانت هذه المهنة مما اشترك به الأنبياء -عليهم السلام-، إلا أنّها ليست مقصورة عليهم من دون الناس.[٦]


وفي حديث آخر صرّح النبي -صلى الله عليه وسلم- بشأن رعي موسى -عليه السلام- للأغنام؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (بُعِثَ موسَى وهوَ راعي غنَم، وبُعِثَ إبراهيمُ وهوَ راعي غنَمٍ، وبُعِثْتُ أنا وأنا أرعَى غنمًا لأهلي بأجيادٍ).[٧][٨]


الحكمة من رعي الأنبياء الغنم

سلّط أهل العلم في القديم والحديث الضوء على الحكمة التي تكمن وراء رعي الأنبياء كلّهم للأغنام؛ إذ إنّ ذلك لا يكون إلا لأمر أراده الله -تعالى- بحكمته، وعلمه، وتقديره؛ فيعود ذلك لعدد من الأسباب التي تتعلق بهذه المهنة تحديداً؛ وتالياً ذكر بعض هذه الأسباب:[٩]

  • إنّ رعي الغنم عمل يحتاج إلى الرفق والعناية بحيوان ضعيف، فيقتضي ذلك تعوّيدهم على الرفق في السياسة مع الناس.
  • إنّ في هذه المهنة مخالطة للضعفاء من الغلمان والرجال، فيكون هذا أدعى لتواضعهم وتوطين أنفسهم عليه.
  • السعي للكسب من عمل اليد، وهو أفضل الكسب تعففاً عمّا في أيدي الناس، واعتماداً على النفس، وحفظ كرامتها.
  • التدريب على الصبر وقدرة التحمّل.[١٠]
  • إنّ رعي الغنم يحتاج إلى مراعاة أحوال الأغنام، واختيار أحسن الموارد للشراب والكلأ؛ مما يُمهدهم لحسن مراعاة أحوال أقوامهم، واختيار أحسن وأفضل الأساليب معهم.[١١]
  • إنّ هذه المهنة تعتمد في غالب أوقاتها على الخلوة؛ مما ينعكس إيجاباً على طمأنينة النفس وسكينتها، وصفاء الذهن والتأمل.[٨]

المراجع

  1. ^ أ ب ت علي علي صبح، التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية، صفحة 281-282. بتصرّف.
  2. سورة القصص، آية:27
  3. سورة طه، آية:17-18
  4. ^ أ ب أبو المظفر السمعاني، تفسير السمعاني، صفحة 325-326، جزء 3. بتصرّف.
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم:3406، صحيح.
  6. صالح المغامسي، لطائف المعارف، صفحة 7، جزء 13. بتصرّف.
  7. رواه الأدب المفرد، في البخاري، عن عبده بن حزن، الصفحة أو الرقم:577، قال ابن حجر رجال إسناده ثقات وقال الألباني صحيح.
  8. ^ أ ب ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، صفحة 439، جزء 6. بتصرّف.
  9. سعد المرصفي، الجامع الصحيح للسيرة النبوية، صفحة 483، جزء 2. بتصرّف.
  10. مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 111، جزء 68. بتصرّف.
  11. ابن بطال، شرح صحيح البخاري، صفحة 386، جزء 6. بتصرّف.