هل ثبت في حقّ نوح عليه السلام خطيئة؟

ينبغي التّأكيد بدايةً أنّ الله -سبحانه- قد عصم الأنبياء الكرام -عليهم السلام- من كبائر الذنوب والفواحش المنكرة، وكذلك من صغائرها التي تؤدي إلى الخسّة وقلة الديانة؛ كما حفظهم الله -سبحانه- من كلِّ ما لا يليق بمقام النبوة والدّعوة التي جاؤوا بها، فكانوا الأسوة الحسنة في التبليغ، وحمل الرسالة، والأخلاق، والبعد عن المنكرات قبل البعثة وبعدها.[١]


ولعلّ من المناسب الإشارة إلى أنّ كلمة خطيئة إنّ صحّ القول بها في حقّ الأنبياء -عليهم السلام-؛ فإنّ منشأها يعود إلى لومِ الأنبياء الكرام لأنفسهم، مع علو شأنهم ومنزلتهم؛ إذ يرون أنّ بعض الأمور التي وقعت منهم كان ينبغي الترّفع عنها خجلاً واستحياءً من الله -تعالى-، وإن كانت هذه الأفعال لا تعدّ من قبيل الذنوب والمعاصي، ولا الآثام الموجبة لغضب الله -تعالى-، إنّما هي زيادةٌ في التورّع خشيّة من الله -تعالى-.[٢]


ولقد ثبت في عدد من الأدلة المُعتبرة أنّ سيدنا نوح -عليه السلام- قد لام نفسه على بعض الأفعال التي وقعت منه، والتي يمكن توضيحها والتعقيب عليها على النحو الآتي:


الدعاء لابنه

دعا سيدنا نوح -عليه السلام- ربّه -جلّ وعلا- بشأن ابنه الذي رفض الركوب في السفينة، وآثر الإيواء بجبل مرتفع على الذهاب مع أبيه -عليه السلام- ومع المؤمنين معه؛ فكان لطيف التوجيه من المولى -سبحانه- لنوح -عليه السلام-؛ بأنّ ابنه هذا ليس من الصالحين الذين استحقوا النجاة؛ فاستغفر -عليه السلام- مما طلبه بفطرة الأبوة البشريّة؛ ظاناً أنّ ما طلبه من ربه جائز، لا من باب معارضة أمر الله -تعالى-.[٣]


قال -سبحانه- في ذلك: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ).[٤][٣]


الدعاء على قومه

حديث الشفاعة

ثبت في حديث الشّفاعة الطويل؛ أنّ الناس يوم القيامة يتجهون إلى الأنبياء -عليهم السلام-؛ ليشفعوا لهم عند الله -سبحانه- بتعجيل الحساب، بدءاً من آدم -عليه السلام- وانتهاءً بالنبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وبينما هم في تنقلٍ بين أنبياء الله -تعالى-، يُقبلون على نوح -عليه السلام- ليشفع لهم؛ ممتدحين مقامه عند مولاه -سبحانه-، ولكنّه يتعذّر لهم عن ذلك بسبب دعائه على قومه بالهلاك.[٥]


وفي الحديث: (... فَيَأْتُونَ نُوحًا فيَقولونَ: يا نُوحُ، إنَّكَ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهْلِ الأرْضِ، وقدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقولُ: إنَّ رَبِّي -عزَّ وجلَّ- قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ كَانَتْ لي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا علَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى إبْرَاهِيمَ...).[٦][٥]


التنبيه بشأن دعاء نوح عليه السلام

وقد حكى لنا القرآن الكريم أنّ دعوة سيدنا نوح -عليه السلام- كانت عندما يئِس من إيمان قومه، وبعد أن أعلمه الله -سبحانه- أنّهم لن يؤمنوا معه، وأنّ النجاة ستكون لمن آمن قبل ذلك -وهم يومئذٍ قلّة-، وقيل إنّ الله -تعالى- أوحى له بهذا الدعاء؛ ولو كان في هذه الدعوة شيءٌ من التعدّي أو التّجاوز -كما يدّعي بعض المُغرضين-؛ لما استجابها -سبحانه- أو لما أوحى له بها.[٧]


ولَمَا انتصر -سبحانه- لنبيّه الكريم الذي لم يزلّ قائماً يدعو ويُبشرّ، ويُنذر ويُحذّر؛ بشتى الوسائل والأساليب، ومع ذلك كلّه ضلّوا وأضلّوا، وما ازدادوا إلا كفراً واستكباراً.[٧] ولوم سيدنا نوح -عليه السلام- يوم القيامة لنفسه على هذا الدعاء، خوفاً من الله -تعالى- لشدّة الموقف، ولهول المصاب يوم القيامة، حيث رأى لو أنّه أمسك عن هذا الدعاء، وترّفع عنه.[٢]


ورُوي أنّ الشيطان جاءه فرحاً بهذا الدعاء؛ فناح نبي الله نوح على قومه، وعاتب نفسه لو أنّه صبر عليهم، وهذا القول لم يثبت بدليل صحيح، إنّما ذكره بعض المؤرخين.[٨] قال -تعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا)؛[٩] وقال -تعالى- في استجابة دعاء النبي الكريم: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ).[١٠][٧]


حديثه مع الكلب

رُويَ في بعض المصنفات أنّ سيدنا نوح -عليه السلام- ذات يوم التقى بكلب قبيح، فقيل إنّه -عليه السلام- التفت إليه واستغرب قبحه؛ فأنطق الله -تعالى- لسان هذا الكلب؛ وجعله يتحدث بحديث ملخصه أنّ الله -تعالى- هو الخالق والمصوّر، وأنّ هذا الكلب لم يملك القدرة على خلق نفسه ونحو ذلك.[٨]


وهذه الرواية أيضاً لم تثبت ولم يقلّ بصحّتها أحدٌ من أهل العلم؛ وإنّما نقلها بعض المؤرخين في كتبهم، ولعلّها من مرويات أهل الكتاب التي لا تصحّ، والتي لا تليق بمقام النبوة وبمقام النبي الكريم نوح -عليه السلام-، فوجب التنبيه إلى ذلك.[٨]

المراجع

  1. عويد المطرفي، آيات عتاب المصطفى في ضوء العصمة والإجتهاد، صفحة 64-65. بتصرّف.
  2. ^ أ ب الشاطبي الأصولي النحوي، الموافقات، صفحة 431، جزء 4. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ابن باز، شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، صفحة 167. بتصرّف.
  4. سورة هود ، آية:45-47
  5. ^ أ ب الكرماني، شمس الدين، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، صفحة 182، جزء 17. بتصرّف.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:4712، صحيح.
  7. ^ أ ب ت مجموعة من المؤلفين، موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام، صفحة 502، جزء 6. بتصرّف.
  8. ^ أ ب ت سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، صفحة 314، جزء 1. بتصرّف.
  9. سورة نوح، آية:26-27
  10. سورة الصافات، آية:75